“البطء” رواية للكاتب “ميلان كونديرا”. ما أن تبدأ في قراءة الصفحة الأولى حتى تشعر بالبطء يتغلغل في زمنك أنت أيها القارئ، وتجد أنك أخذت وقتاً أطول من المعتاد في قراءة رواية صغيرة، حتى حركتك تصبح بطيئةً في تقليب الصفحات، ينجح الكاتب نجاحاً سريعاً في زرع الشعور بالبطء داخل جمجمة قارئه.
هذه المقدمة “البطيئة” الغرض منها جعلكم تشعرون بشعوري نفسه تجاه كثير من القرارات المهمة في بلادنا التي لم تنفذ، وكلما فكرت في الأمر تخطر لي رواية البطء، فأبطئ في التفكير “أبطأ وأبطأ”، فإذا تذكرت تاريخ صدور قرار لفصل وزارة عن أخرى أو إنشاء هيئة ما، أو أي قرار على هذا المستوى… أتذكر أنه تم “منذ مبطي”.
والبطء “يبط الكبد”، وأكبادنا تمشي على الأرض، وتتزايد يومياً ومعها تتزايد حاجاتها ومشاكلها فتتعثر ببطء على بطء، وبلادنا أصلاً مشهورة بأمراض الكبد ونحن نضيف لها فيروساً جديداً اسمه فيروس البطء.
إحدى أبرز المشاكل العويصة التي تواجهنا تشابك الصلاحيات بين الأجهزة الحكومية، لم نستطع حسم هذه القضية الشائكة والمؤجلة بطرح الحلول، وبالتالي وفرنا البيئة المناسبة لتراكمات تزداد يومياً، وبدلاً من أن نواجه هذه القضية الجوهرية، قمنا من حيث لا نشعر بزيادتها، يتم ذلك بتأخير أو عدم تنفيذ كثير من القرارات المهمة التي صدرت وبقيت حبيسة اجتماعات اللجان التي لا تنتهي، ومن الواضح أن الدمج لدينا أسهل عملياً من الفصل. أقول هذا من الناحية الشكلية، لأنه لا يحتاج سوى إلى تغيير لوحة فقط، ويبقى الأزرق أزرقَ والأصفر أصفرَ داخل سور واحد لونه رمادي. كثير من الموظفين الآن في بعض الوزارات والهيئات لا يعلمون حقيقة مستقبلهم الوظيفي، كلٌ “يدفهم” على الجهة الأخرى، والمصالح تتعطل والأحلام تتبخر، ويتطلع الناس إلى البعيد، وهل أقول وأزيد؟
الأمثلة أكثر من أن تحصى في التداخلات والتشابكات بين صلاحيات الجهات الحكومية في كل شأن، جهات تقول إنها تشريعية فقط وجهات تقول إنه ليس لديها القدرات التنفيذية، وتبدأ القضايا صغيرة ثم تتضخم وينشأ من حولها منتفعون أو متراخون… فقط همهم الدوام والترقية.
ليس لدي دراسة عن نسبة القرارات التي نفذت على أرض الواقع من جملة القرارات التي صدرت للإصلاح الحكومي وإعادة الهيكلة وإنشاء مصالح مدنية جديدة، ربما ستفاجئنا النسبة لو تمت مثل هذه الدراسة، وأرجو أن لا تتم الدراسة بالسرعة البطيئة نفسها.
وللأسف…
أشعر أن البطء سيجعلنا في آخر الركب، ونحن نرى من حولنا يسرع كل يوم أكثر من اليوم الذي قبله، فيما نحن نستمر في البطء أقول هذا لأن “كبدي منبطة”.
-
* الموقع يحدث بإستمرار مع نشر المقالات في صحيفة الإقتصادية .
أحدث التعلقيات
-
أحدث المقالات
الأرشيف
كتب
- هذا الموقع بدعم وإدارة من شبكة أبونواف
روابط