وباء التجمل

إذا تمعنت في عمل بعض الأجهزة الحكومية تجد أن هناك أولية تقدم الشكل على المضمون، واستخدام وسائل الإعلام للإبهار، وإذا أخذت مدينة جدة نموذجاً تجد أنها حفلت على مدى عقود بالاحتفال بالأشكال على حساب البنية الأساسية، فكانت مدينة المجسمات بلا منازع، ومدينة الدوارات بلا منازع، فحتى “السيكل” أو الدراجة الهوائية صنع لها مجسم، وشاهد الناس سيارات مدفونة في هياكل خرسانية، وقدمت لهم على أنها شكل جمالي بديع! فكانت بالفعل مدينة “غير”.
هذا الحرص المستميت على الشكل والماكياج لم يصاحبه اهتمام مماثل بأحوال جسد المدينة، فلم يلتفت إلى جهازها العصبي، ولا أوعيتها الدموية، ولأنه لا بدّ من أن يصحّ الصحيح وينكشف المستور تلاحقت المشكلات “العويصة” على المدينة وسكانها، بدءاً من عدم القدرة على مواجهة السيول إلى أن وصلت إلى استيطان الأوبئة، وقبل سنوات كنت قادماً من جدة وإلى جواري جلس مقاول مهندس يعمل في شركة كبرى منذ عقود، وكان الحديث عن مشكلات عروس البحر الأحمر، وكان رأيه أن الخطأ الجسيم جاء من اعتراض طرق الأودية والشعاب ودفنها ثم تخطيطها والبناء عليها، فأصبحت المدينة بلا أوردة حقيقية. كان الرجل بخبرته يرى الخطر المقبل، ولا يمكن نسيان مشاريع الصرف الصحي التي لا يُعرف أين ذهبت بها الرياح، فتجمّعت البحيرات القذرة، وأصبحت سداً كريهاً يهدّد المدينة.
“الحياة” نشرت تقريراً مهماً يوم الخميس عن عروس البحر الأحمر، حيث أوضح ممثل القطاع الخاص، المهندس محمد البخاري، الدور السلبي لأمانة مدينة جدة بتوفير البيئة الملائمة لانتشار البعوض! وذكر 17 خطأ مارستها الأمانة، منها إهمال جنوب المدينة الذي استوطن فيه الوباء ثم تحرك إلى بقية أجزائها.
وفي حين تحاول جهاتٌ المكافحة، تحرص جهاتٌ أخرى على التجميل بنشر المسطحات الخضراء والريّ العشوائي لها بما يقدر بـ30 ألف متر مكعب يومياً، أضف إلى ذلك الخزانات التي أنشئت لهذا الغرض والتي تبقى فيها المياه راكدة معظم الأسبوع، ولا تنسَ الريّ بمياه الصرف المعالج! وكما أشرت أكثر من مرة فإن التنسيق بين بعض الجهات الحكومية مفقود، وسرعته تتراجع أمام سرعة السلحفاة.
قصة جدة أو عروس البحر الأحمر سابقاً، قصة فيها من العبر الشيء الكثير، لكل مدينة ومحافظة في بلادنا، فهي المدينة العروس المصابة بالوباء وانسداد الشرايين! وهي قبل أشهر احتضنت ملتقى عالمياً ناقش قضايا العالم البعيد وترك قضاياها. إنه الحرص على التجمل والشكل والدعاية على حساب ما ينفع الناس.

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الحياة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.