النسخة العربية من مانديلا ممنوعة من الظهور، وربما من الطبع أيضاً. قبع مانديلا في السجن أعواماً تقارب عدد السنين التي قضاها صدام حسين في السلطة. كان صدام هو السجان والشعب العراقي في القفص، تنعّم “الرئيس القائد” بكل أبعاد السلطة وحدودها القصوى. كان السلاح رفيقه حتى في مكتبه. المسدس والبندقية رمز للفخر والسلطة لديه. خرج مانديلا من السجن منتصراً على نفسه وعلى من حكم عليه بالقمع والسجن من مواطنيه ذوي الأصول الأوروبية، فسامح وصافح. تناسى – عن قناعة – كل الآلام والمصائب وجثث القتلى. كان ينظر إلى المستقبل. يحاول إيقاف شحنات جديدة من الجثث. تعلم مانديلا في السجن تهذيب النفس ومجاهدتها، فكان زعيماً ترك أكبر أثر في خصومه قبل مؤيديه، فيما عاد بعض العراقيين من المنفى، وصدورهم تزفر بشهوة الانتقام، فكان الثأر من الكل، جعلوا من أفعال صدام وصمة في جبين كل من خالفهم، فقاموا بمثل ما قام به، ولا يورث الانتقام سوى الانتقام، لذا تصاعدت أصوات الثأر.
نسي الإعلام كل الأسماء التي أغدقها صدام على نفسه طوال عقود، من المهيب إلى الرئيس الخالد، واحتفظ له بصفة واحدة” “الرئيس المخلوع”، حتى لحظة إعدامه ليعود صدام حسين فقط لا غير، كما بدأ مشواره العجيب. حياة صدام الحافلة بالرصاص، المتمنطق بالمسدس، المبتهج بإطلاق النيران من البنادق، تمنى في نهايتها رصاصة واحدة بدلاً من
حبل المشنقة. رصاصة واحد عزيزة سبق أن أهدى مثلها لرؤوس كثير من رفاقه.
محنة صدام وشعب العراق كشفت الكثير. بعضهم رأى في المحاكمة إحقاق عدالة ضد طاغية، لكن قبحها ظهر في تلبسها ضغائن ضد العروبة والإسلام. من الواضح أن العروبة هي المستهدفة في العراق. العراق العربي يلفظ أنفاسه، والذين يحاكمون عروبة العراق متخفين يضعون أيديهم في يد حاكم آخر يعلن شعارات العروبة خياراً له، ولأجل مسمّى. الأحزاب في العالم الثالث ليست سوى طريق معبد للدكتاتورية. حزب البعث العربي كان نموذجاً بامتياز لأكثر من دورة حكم، ولا يزال. في العراق ذهب دكتاتور، ونشاهد الآن ميلاد أكثر من دكتاتور.
في نهاية صدام عِبر ورسائل لا تحصى، للفرد وللزعيم والحاكم، أولى تلك العبر تهدي نفسها لمن حكم عليه ونفذ الحكم بتلك الصورة المشينة. الانتقام لا يورث إلا انتقاماً. أعدموا صدام ولا اعتراض، لكنهم خسروا الكثير بسبب سوء التقدير والخضوع لإملاءات المحتلين والجيران المصفقين. ذهب صدام بكل الأسرار، فاستراح الأميركان والبريطانيون. وهنا عبرة أخرى للزعيم، صارح شعبك، فأنت مثل كل فرد لا تعلم ماذا يخبئ المستقبل، قد يأتي وقت تخضع فيه أقوالك لمقص الرقيب، هذا إذا سمح لك بالكلام.
-
* الموقع يحدث بإستمرار مع نشر المقالات في صحيفة الإقتصادية .
أحدث التعلقيات
-
أحدث المقالات
الأرشيف
كتب
- هذا الموقع بدعم وإدارة من شبكة أبونواف
روابط