“دابان”

مثل غالبية مَنْ تعرّف به كنت أتوقع عبدالله نور في كل لحظة، لو بحثت عنه لن تجده، لكنه قد يفاجئك بزيارة أو اتصال صباحي ليدعوك، على سبيل المثال، إلى تناول وجبة “كبدة حاشي” في محل اكتشفه أخيراً في شارع العليا، بعد أن ابتعدت الرياض الجديدة من تلك المحال القديمة في حلة “الأحرار” كان متبسطاً يعيش اللحظة، وكان على خصام مع السيارة، يمشي ولا يكلّ من المشي، ولا تستطيع مجاراته، يحسده أسنانه على جسده الرشيق وعنفوانه. كان عبدالله نور متحدثاً بارعاً، بل متمكناً لا يُمَلّ حديثه في اللغة والتراث وسِيَر الرجال، وهو من القامات الثقافية التي لم يُستفد منها في وسائل إعلامنا “العجيبة”، فهي بعيونها الزائغة آخر من يلتفت إلى القامات الكبيرة المحلية، لم تكن لغة عبدالله نور التراثية الموسوعية وأنفته قادرتين على التواصل مع لغة المجتمع المتسارعة بكل أبجدياتها القائمة على الشهادة، وكثير من الصمت، فلم يكن عبدالله نور صموتاً، كما لم يكن ثرثاراً، لكنه كان صريحاً صراحة أوجدت جفوة بينه وبين بعض أبناء جيله ممن تصدّروا الإعلام والثقافة، لهذا كنا نراه يغيب عن الإعلام كثيراً ويحضر نادراً، فكما هو فريد من نوعه فقد كان يحتاج إلى تعامل فريد من نوعه أيضاً، أما مشاريعه الأدبية فهي كثيرة إلى درجة أن البعض لم يعد يصدقونها، لأنهم لم يجدوها في كتاب، متناسين أن إصدار كتاب لم يكن بالأمر السهل على رجل مثل عبدالله نور يعيش اللحظة، أتذكر من تلك المشاريع الأدبية بحوثاً عن الخيل، والحروف المقطعة في القرآن الكريم، وكانت آخر مرة التقيته فيها عندما كنت أعمل في جريدة “الاقتصادية”، اتصل ليصل بعد ساعة، وكانت المفاجأة رواية مخطوطة كتبها، طلبت منه استعارتها، ثم ندمت، لأني لم آخذ نسخة منها، كانت رواية جميلة حضر فيها عبدالله نور حضوراً طاغياً بلغته الثرية ووصفه البليغ، لمست فيها روح الجاحظ وحضور الدميري، كانت عن منطقة نجد قبل عقود من الزمن، ومن خلال بطلها “دابان” أدخل عبدالله القارئ إلى شوارع نجد الطينية القديمة، ثم ما لبث أن استعادها بعد أسابيع قليلة ليختفي كعادته، وعلى كثر علاقاته وصداقته ومعارفه عاش عبدالله نور وحيداً، ومات، كما قرأتم وسط الأطباء، وحيداً وصلّت عليه جموع من المصلين في مسجد الراجحي وحيداً! فهل نرى وفاء حقيقياً من هيئة الصحافيين، وهي تضم رؤساء تحرير الصحف التي عمل وكتب فيها عبدالله نور، وهم مَنْ يمتلكون الإمكانات، فيكلّفون مَنْ يرون بجمع نتاجه ونشره ويكون عائده صدقة له، أليس هذا أحق مقارنة ببعض الكتابات التي تنشر لكتاب من الخارج كل شهر! اللهم إن رحمتك وسعت السموات والأرض، اللهم ارحم عبدالله نور ونقّه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغفر له ولجميع موتى المسلمين وارحمنا معهم بواسع مغفرتك، اللهم آمين.

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الحياة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.